الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)
و{سجدا} منصوب على الحال. قال الزجاج: قد بيّن الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله بكوا وسجدوا، وقد استدلّ بهذه الآية على مشروعية سجود التلاوة.ولما مدح هؤلاء الأنبياء بهذه الأوصاف ترغيباً لغيرهم في الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم ذكر أضدادهم تنفيراً للناس عن طريقتهم فقال: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي عقب سوء. قال أهل اللغة: يقال لعقب الخير: خلف بفتح اللام، ولعقب الشر خلف بسكون اللام، وقد قدّمنا الكلام على هذا في آخر الأعراف {أضاعوا الصلاة} قال الأكثر: معنى ذلك أنهم أخروها عن وقتها وقيل: أضاعوا الوقت وقيل: كفروا بها وجحدوا وجوبها وقيل: لم يأتوا بها على الوجه المشروع. والظاهر أن من أخر الصلاة عن وقتها أو ترك فرضاً من فروضها أو شرطاً من شروطها أو ركناً من أركانها فقد أضاعها، ويدخل تحت الإضاعة من تركها بالمرّة أو أحدها دخولاً أوّلياً.واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؟ فقيل: في اليهود وقيل: في النصارى وقيل: في قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون في آخر الزمان، ومعنى {واتبعوا الشهوات} أي فعلوا ما تشتهيه أنفسهم وترغب إليه من المحرمات كشرب الخمر والزنا {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} الغيّ: هو الشرّ عند أهل اللغة، كما أن الخير: هو الرشاد، والمعنى: أنهم سيلقون شرّاً لا خيراً. وقيل: الغيّ الضلال، وقيل: الخيبة. وقيل: هو اسم وادٍ في جهنم وقيل: في الكلام حذف، والتقدير: سيلقون جزاء الغيّ، كذا قال الزجاج، ومثله قوله سبحانه: {يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68]. أي جزاء أثام.{إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صالحا} أي تاب مما فرط منه من تضييع الصلوات واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة الله وآمن به وعمل عملاً صالحاً، وفي هذا الاستثناء دليل على أن الآية في الكفرة لا في المسلمين {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة} قرأ أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر {يدخلون} بضم الياء وفتح الخاء، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الخاء {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} أي لا ينقص من أجورهم شيء وإن كان قليلاً، فإن الله سبحانه يوفي إليهم أجورهم. وانتصاب {جنات عَدْنٍ} على البدل من الجنة، بدل البعض لكون جنات عدن بعض من الجنة. قال الزجاج: ويجوز {جنات عدن} بالرفع على الابتداء، وقرئ كذلك. قال أبو حاتم: ولولا الخط لكان جنة عدن، يعني: بالإفراد، مكان الجمع وليس هذا بشيء، فإن الجنة اسم لمجموع الجنات التي هي بمنزلة الأنواع للجنس. وقرئ بنصب الجنات على المدح، وقد قرئ جنة بالإفراد {التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب} هذه الجملة صفة لجنات عدن، و{بالغيب} في محل نصب على الحال من الجنات، أو من عباده، أي متلبسة، أو متلبسين بالغيب، وقرئ: بصرف عدن، ومنعها على أنها علم لمعنى العدن وهو الإقامة، أو علم لأرض الجنة {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} أي: موعوده على العموم، فتدخل فيه الجنات دخولاً أوّلياً.قال الفراء: لم يقل آتياً، لأن كل ما أتاك فقد أتيته، وكذا قال الزجاج.{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} هو الهذر من الكلام الذي يلغى ولا طائل تحته، وهو كناية عن عدم صدور اللغو منهم؛ وقيل: اللغو: كل ما لم يكن فيه ذكر الله {إِلاَّ سلاما} هو استثناء منقطع: أي سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم.وقال الزجاج: السلام اسم جامع للخير، لأنه يتضمن السلامة، والمعنى: أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤلمهم وإنما يسمعون ما يسلمهم {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قال المفسرون: ليس في الجنة بكرة ولا عشية، ولكنهم يؤتون رزقهم على مقدار ما يعرفون من الغداء والعشاء {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} أي هذه الجنة التي وصفنا أحوالها نورثها من كان من أهل التقوى كما يبقى على الوارث مال موروثه. قرأ يعقوب {نورّث} بفتح الواو وتشديد الراء، وقرأ الباقون بالتخفيف. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: نورّث من كان تقياً من عبادنا.وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} قال: النبي الذي يكلم وينزل عليه ولا يرسل. ولفظ ابن أبي حاتم: الأنبياء الذين ليسوا برسل يوحى إلى أحدهم ولا يرسل إلى أحد. والرسل: الأنبياء الذين يوحى إليهم ويرسلون.وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {جَانِبِ الطور الأيمن} قال: جانب الجبل الأيمن {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} قال: نجا بصدقه.وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال: قربه حتى سمع صريف القلم، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين.وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال: حتى سمع صريف القلم يكتب في اللوح.وأخرجه الديلمي عنه مرفوعاً.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون} قال: كان هارون أكبر من موسى، ولكن إنما وهب له نبوّته.وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال: كان إدريس خياطاً، وكان لا يغرز غرزة إلا قال: سبحان الله، وكان يمسي حين يمسي وليس على الأرض أفضل عملاً منه، فاستأذن ملك من الملائكة ربه فقال: يا ربّ ائذن لي فأهبط إلى إدريس، فأذن له فأتى إدريس فقال: إني جئتك لأخدمك، قال: كيف تخدمني وأنت ملك وأنا إنسان؟ ثم قال إدريس: هل بينك وبين ملك الموت شيء؟ قال الملك: ذاك أخي من الملائكة، قال: هل تستطيع أن تنفعني؟ قال: أما يؤخر شيئاً أو يقدّمه فلا، ولكن سأكلمه لك فيرفق بك عند الموت، فقال: اركب بين جناحيّ، فركب إدريس فصعد إلى السماء العليا فلقي ملك الموت وإدريس بين جناحيه، فقال له الملك: إن لي إليك حاجة، قال: علمت حاجتك تكلمني في إدريس وقد محي اسمه من الصحيفة فلم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين، فمات إدريس بين جناحي الملك.وأخرج ابن أبي شيبة في الصنف، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سألت كعباً فذكر نحوه، فهذا هو من الإسرائيليات التي يرويها كعب.وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: «رفع إدريس إلى السماء السادسة».وأخرج الترمذي وصححه، وابن المنذر وابن مردويه قال: حدثنا أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة».وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه.وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: رفع إدريس كما رفع عيسى ولم يمت.وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إدريس هو إلياس. وحسنه السيوطي.وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله: {أُولَئِكَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} إلى آخره، قال: هذه تسمية الأنبياء الذين ذكرهم؛ أما من ذرية آدم: فإدريس ونوح؛ وأما من حمل مع نوح فإبراهيم، وأما ذرية إبراهيم: فإسماعيل، وإسحاق ويعقوب؛ وأما ذرية إسرائيل: فموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى.وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} قال: هم اليهود والنصارى.وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في الآية قال: هم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق كما تراكب الأنعام لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله في السماء.وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود في قوله: {أضاعوا الصلاة} قال: ليس إضاعتها تركها قد يضيع الإنسان الشيء ولا يتركه، ولكن إضاعتها: إذا لم يصلها لوقتها.وأخرج أحمد، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} الآية قال: «يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً}، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر».وأخرج أحمد، والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللبن، قلت: يا رسول الله ما أهل الكتاب؟ قال: «قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا»، قلت: ما أهل اللبن؟ قال: «قوم يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات».وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، والحاكم وصححه عن عائشة، أنها كانت ترسل بالصدقة لأهل الصدقة وتقول: لا تعطوا منها بربرياً ولا بربرية، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هم الخلف الذين قال الله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}».وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} قال: خسراً.وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث من طرق عن ابن مسعود في قوله: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} قال: الغيّ نهر، أو وادٍ في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم، يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات.وقد قال بأنه وادٍ في جهنم البراء بن عازب.وروى ذلك عنه ابن المنذر والطبراني.وأخرج ابن جرير والطبراني والبيهقي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن صخرة زنة عشر عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفاً، ثم تنتهي إلى غيّ وأثام» قلت: وما غيّ وأثام؟ قال: «نهران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللذان ذكر الله في كتابه: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} {ومن يفعل ذلك يلق أثاماً} [الفرقان: 68]».وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الغيّ وادٍ في جهنم».وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} قال: باطلاً.وأخرج سعيد ابن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قال: يؤتون به في الآخرة على مقدار ما كانوا يؤتون به في الدنيا.وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا: قال رجل: يا رسول الله، هل في الجنة من ليل؟ قال: «وما هيجك على هذا»؟ قال: سمعت الله يذكر في الكتاب: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} فقلت: الليل من البكرة والعشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس هناك ليل، وإنما هو ضوء ونور، يرد الغدوّ على الرواح والرواح على الغدوّ، تأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة».وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما من غداة من غدوات الجنة، وكل الجنة غدوات، إلى أنه يزف إلى وليّ الله فيها زوجة من الحور العين وأدناهنّ التي خلقت من الزعفران» قال بعد إخراجه: قال أبو محمد: هذا حديث منكر.
|